ففي هذا الحديث العظيم قسم الرسول صلى الله عليه وسلم الناس في قبول الهدى أو
عدمه ثلاثة أقسام:
القسم الأول: العلماء العاملون.
القسم الثاني: العلماء الذين ينتفع الناس بعلمهم أكثر من انتفاعهم هم به.
القسم الثالث: من لم ينتفع بعلم ولا عمل.
قال الإمام النووي رحمه الله: "أما
معاني الحديث ومقصوده، فهو تمثيل الهدى الذي جاء به صلى الله عليه وسلم
بالغيث، ومعناه أن الأرض ثلاثة أنواع، وكذلك الناس:
فالنوع الأول
من الأرض ينتفع بالمطر فيحيا بعد أن كان ميتاً، وينبت الكلأ، فتنتفع بها
الناس والدواب والزرع وغيرها، وكذلك النوع الأول من الناس يبلغه الهدى والعلم
فيحفظه فيحيا قلبه ويعمل به ويعلمه غيره، فينتفع وينفع.
والنوع الثاني
من الأرض: ما لا تقبل الانتفاع في نفسها لكن فيها فائدة، وهي إمساك الماء
لغيرها فينتفع بها الناس والدواب، وكذلك النوع الثاني من الناس، لهم قلوب
حافظة لكن ليست لهم أفهام ثاقبة، ولا رسوخ لهم في العقل يستنبطون به المعاني
والأحكام، وليس عندهم اجتهاد في الطاعة والعمل به، فهم يحفظون حتى يأتي طالب
محتاج فيعطش لما عندهم من العلم أهل للنفع والانتفاع، فيأخذه منهم فينتفع به،
فهؤلاء نفعوا بما بلغهم.
والنوع الثالث
من الأرض: السباخ التي لا تنبت ونحوها، فهي لا تنتفع بالماء ولا تمسكه لينتفع
بها غيرها، وكذلك النوع الثالث من الناس، ليست لهم قلوب حافظة ولا أفهام
واعية، فإذا سمعوا العلم لا ينتفعون به ولا يحفظونه لنفع غيرهم، والله أعلم.
وفي هذا الحديث أنواع من العلم منها: ضرب الأمثال، ومنها فضل العلم والتعليم
وشدة الحث عليهما، وذم الإعراض عن العلم واله أعلم" [شرح النووي على مسلم
(15/47-48)].
وقد أثبت الرسول صلى الله عليه وسلم الخير لمن وفقه الله ففقهه في الدين،
ومعنى ذلك أن من لم يفقهه في دينه فقد حرم الخير، وكيف ينال الخير من حرم
الفقه في دين الله؟
ففي حديث معاوية رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى اله عليه وسلم يقول: ((من
يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)) [البخاري رقم (71) فتح الباري (1/164)
ومسلم (2/718)]
قال الحافظ رحمه الله: "ومفهوم الحديث أن من لم يتفقه في الدين – أي يتعلم
قواعد الإسلام وما يتصل بها من الفروع- فقد حرم الخير" [فتح الباري (1/165)].
والسبب في ربط الخير بالفقه في الدين أنه بالفقه في كتاب الله وسنة رسوله صلى
اله عليه وسلم، يتعرف المؤمن بذلك على أسماء اله وصفاته، وما يجب له تعالى
وما يجب للنفس وللناس من قريب أو بعيد، فينطلق الفقيه في الدين في عمله عن
علم ومعرفة، ويفرق بين الحق والباطل، بخلاف الجاهل في ذلك كله.
وهذا يقتضي من العبد أن يجتهد في تحصيل العلم من الكتاب والسنة، وكل علم يعين
على فهمهما والفقه فيهما، وأن يكون القصد من ذلك تطبيق ما علمه بعمله حتى
يكون علماً نافعا،ً وإلا كان الجاهل بدين الله خيراً منه.
قال ابن تيمية رحمه الله: "وإذا كان أهل الخشية هم العلماء الممدوحون في
الكتاب والسنة لم يكونوا مستحقين للذم، وذلك لا يكون إلا مع فعل الواجبات،
ويدل عليه قوله تعالى: ((فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين، ولنسكننكم الأرض
من بعدهم، ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد)) [إبراهيم: 13-14]
وقوله: ((ولمن خاف مقام ربه جنتان)) [الرحمن: 46] فوعد بنصر الدنيا وثواب
الآخرة لأهل الخوف، وذلك إنما يكون لأنهم أدوا الواجب، فدل على أن الخوف
يستلزم فعل الواجب، ولهذا يقال للفاجر لا يخاف الله، ويدل على هذا المعنى
قوله تعالى: ((إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من
قريب)) [النساء: 17]